من وحي ذكرى الرحلة السلطانية الى طنجة( 9 ابريل 1947)

في ظل هذه الظروف التي تعيشها بلادنا وجل بلدان المعمور، من انتشار وباء كورونا المستجد (كوفيد 19)، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية بالجائحة، وما يواكب هذا من اجراءات وقائية، للحد من انتشاره عبر منع التجمعات والاختلاط تحل علينا يومه الخميس 9 أبريل 2020 الذكرى الثالثة والسبعين لزيارة الوحدة التي قام بها بطل التحرير المغفور له محمد الخامس قدس الله روحه إلى مدينة طنجة سنة 1947، وحيث يتعذر تخليد الذكرى بالشكل المعهود منذ سنوات، فإنه لا بأس أن نتذكرها ببعض هذه الشذرات.
لقد جاءت الزيارة الملكية إلى طنجة في وقتها المناسب، وشكلت منعطفا هاما في مسيرة النضال الوطني من أجل الاستقلال، وفصلا متميزا بين عهدين مختلفين في كل شيء: عهد الصراع بين القصر والإقامة العامة والنضال السياسي لرجال الحركة الوطنية، وعهد الجهر بالمطالبة بحق المغرب في الاستقلال أمام المحافل الدولية وإسماع صوت المغرب بالخارج، والعالم آنذاك بصدد طي مرحلة التوسع الاستعماري والدخول في طور تحرير الشعوب وتقرير مصيرها. فجاءت بذلك هذه الزيارة التاريخية لجلالته قدس الله روحه في مرحلة دقيقة وفاصلة في حياة تاريخ المغرب، ومرحلة حاسمة في مسار النضال والكفاح الوطني من أجل نيل الحرية والاستقلال ورفرفة راية البلاد تحت كيان موحد ومتماسك.
وما أن علمت سلطات الحماية برغبة جلالته طيب الله ثراه، حتى عمدت إلى محاولة إفشال مخطط الرحلة الملكية بمختلف الأساليب المقيتة، لكنها لم تنجح في ذلك إذ جاء رد جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله على مبعوث هذه السلطات قائلا : ” لا مجال مطلقا في الرجوع عن مبدأ هذه الرحلة “ وهكذا ارتكبت سلطات الاستعمار مجزرة شنيعة بمدينة الدار البيضاء في 7 من أبريل 1947، ذهب ضحيتها مئات المواطنين الأبرياء، وقد سارع جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه إلى زيارة عائلات الضحايا ومواساتهم والتعبير لهم عن تضامنه إثر هذه الجريمة النكراء.
لقد فطن جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله إلى الأساليب الشيطانية لدهاقنة الاستعمار ومنظريه، والتي كانت تهدف إلى ثني جلالته عن عزمه في تحقيق التواصل مع رعاياه الأوفياء بعاصمة البوغاز.
وفي يوم 9 أبريل 1947، توجه طيب الله ثراه على متن القطار الملكي، وقد تعمد جلالته أن تكون رحلة برية تخترق الحدود الوهمية التي رسمها الاستعمار انطلاقا من مدينة الرباط نحو طنجة عبر مدينتي سوق أربعاء الغرب تم القصر الكبير فأصيلا التي خصص بها سمو الأمير مولاي الحسن بن المهدي استقبالا حماسيا احتفاء بمقدم العاهل الكريم في حشد جماهيري حافل، هذه الصورة كسرت العراقيل التي دبرتها سلطات الاستعمار ليتأكد التلاحم المتين والأواصر القوية التي جمعت على الدوام بين العرش العلوي المجيد والشعب المغربي، وقد خصصت ساكنة طنجة استقبالا حارا للموكب الملكي جددت من خلاله تمسكها وتفانيها في الإخلاص لثوابت الأمة ومقدساتها واستعدادها للدفاع عن كرامة البلاد وعزتها.
وقد جاء الخطاب التاريخي الذي ألقاه العاهل الكريم في فناء حدائق المندوبية، بحضور ممثلين عن الدول الأجنبية وهيأة إدارة المنطقة وشخصيات أخرى مغربية وأجنبية، ليعلن للعالم أجمع عن إرادة الأمة وحقها في استرجاع استقلال البلاد ووحدتها الترابية حيث قال جلالته في هذا الصدد: ” إذا كان ضياع الحق في سكوت أهله عليه فما ضاع حق من ورائه طالب، و إن حق الأمة المغربية لا يضيع ولن يضيع ..”.
كما تأكد من خلال خطاب جلالته نظرته الصائبة رحمه الله، وطموحاته النبيلة نحو مستقبل المغرب حيث قال جلالته بهذا الخصوص: ” فنحن بعون الله وفضله على حفظ كيان البلاد ساهرون، ولضمان مستقبلها المجيد عاملون، ولتحقيق تلك الأمنية التي تنعش قلب كل مغربي سائرون ..”.
لقد كان خطاب جلالته رسالة واضحة المعالم والمضامين لأصحاب المطامع الاستعمارية، بحيث أوضح رحمه الله أن وحدة البلاد من شمال المغرب إلى أقصى جنوبه أمر لا نقاش فيه، وإن مرحلة الحماية ما هي إلا حافز لوعي المغاربة بأهمية الموقع الجغرافي الذي يحتله المغرب، ولم يكن اختيار مدينة طنجة صدفة أو أمرا اعتباطيا، بل كان له دلالات كبيرة وهي المدينة التي خصها جلالة المغفور له بقوله : ” وآن أن نزور عاصمة طنجة التي نعدها من المغرب بمنزلة التاج من المفرق، فهي باب تجارته ومحور سياسته …”
بالإضافة إلى ذلك فقد كان لهذه الزيارة جانب روحي، وكأمير للمؤمنين فقد ألقى جلالة المغفور له محمد الخامس يوم الجمعة 11 أبريل خطبة الجمعة، وأم المؤمنين بالصلاة في المسجد الأعظم بطنجة، وحث الأمة المغربية على التمسك برابطة الدين فهي الحصن الحصين لأمتنا ضد مطامع الغزاة، لذلك فقد كان للرحلة الملكية إلى طنجة وقع الصدمة التي أربكت حسابات سلطات الحماية وجعلتها تقدم بشكل فوري على عزل المقيم العام الفرنسي ” إيريك لابون ” ليحل محله الجنرال ” جوان ” الذي بدأ حينها حملته المسعورة على المغرب وقام بتضييق الخناق على القصر الملكي منفذا مؤامرة النفي التي كان أثار عكسية لرغبة المستعمر اذ تصاعدت موجة المقاومة ضد المحتل وكانت ايذانا بقرب نهاية الوجود الاستعماري بالمغرب.
رحم الله شهداء الحرية والاستقلال وفي طليعتهم جلالة المغفور لهما الملكان الراحلان محمد الخامس والحسن الثاني طيب الله ثراهما.
وختاما نسأل الله عز وجل أن يحفظ خلقه، وأن يديم نصره وحفظه لجلالة الملك محمد السادس ويعينه على ما هو عليه، ويقر عينه بولي عهده المحبوب الأمير مولاي الحسن، و يشد أزره بشقيقه الأمير الجليل مولاي رشيد، و يحفظ جميع أفراد الأسرة الملكية الشريفة.